النص المسرحي: جاء في مسرحية (جسر إلى الأبد ) لغسان كنفاني ما يلي :
رجاء : (تصيح) افتح يا فارس ... افتح ... افتح.
فارس: (من بعيد) رجاء؟ أتيت مبكرة اليوم هل من جديد ؟
رجاء: (مثارة) افتح ...افتح...عجل افتح.
فارس: لحظة واحدة ، لحظة واحدة ، سأصل الآن ، لحظة واحدة فقط .
(صوت أقدامه – ثم مزلاج الباب يفتح)
رجاء: (شبه باكية) آه يا فارس .أيها العزيز المسكين . أنت لم تقتل أمك . لم تقتلها . لم تقتلها.
فارس: (مذهولا)لم أقتلها؟
رجاء: (تصيح) أجل . لم تقتلها يا فارس ...لم تقتلها.
فارس: (كمن فقد رشده) تعنين أنها ليست ميتة؟
رجاء: لا.لا. (تتردد)أعني.نعم. إنها ميتة طبعا . ولكنك لم تقتلها .
فارس: (منهارا) كيف؟ أيتها الحمقاء الصغيرة ؟كيف؟كيف؟
رجاء: (تلهث)لقد ماتت بعد نصف ساعة فقط من مغادرتك البيت ...(تصمت هنيهة ) أنت قلت أنك غادرت البيت يوم الثلاثاء في الساعة الثامنة صباحا . التقرير الطبي يقول إنها ماتت في الساعة الثامنة و النصف من نفس الصباح.
فارس: هذا...هذا لا يغير شيئا.
رجاء: كيف؟كيف؟ لا يغير شيئا أيها الأحمق ...كيف؟
فارس: ماذا يغير ؟
رجاء: لقد ماتت قبل أن تغادر المدينة أنت...كان من الممكن أن يحدث ذلك و أنت هنا . ماتت دون أن تعرف أنك غادرت المدينة . كانت تشتري طعاما للغذاء و كانت على وشك العودة إلى البيت حين داهمها الموت في الطريق :أصيبت بالسكتة القلبية فجأة ...و كنت أنت ما زلت في المطار . أنت لم تقتلها أيها المسكين الضائع ... لم تقتلعا.
فارس: متأكدة ؟
رجاء: قرأت التقرير مرات و مرات بعيني هاتين و يبقى أن تذهب بنفسك أنت لتتأكد من كل شيء(تتنهد) يا إلهي ...ألست سعيدا؟
فارس: (مترددا) لست أدري ...لست أدري...إن صدري يموج كأنه بحر ، أمسكي يدي يا رجاء إنها باردة كالثلج لست أدري....لا أستطيع أن أتعرف على مشاعري.
رجاء: (مثارة) ضع ذلك في رأسك يا فارس ... أنت لم تقتلها... أنا لا افهم مسؤولية الإبن...
ولكن يجب أن تبدل جهدا لتصدق نفسك ... أنت لم تقتلها ... قل ذلك لنفسك.
فارس: (دون شعور ) أنا لم أقتلها .
رجاء: قل ذلك مرة أخرى
فارس: أنا أقتل أمي ... أنا لم أقتل أمي .
رجاء: ذلك سيجعل الأمور أفضل بكثير...
فارس: (شاردا) لم اقتلها ...يا إلهي .(يصيح فجأة) إن ذلك يغير كل شيء.
رجاء: (بسعادة) يغير كل شيء ... كل شيء ... لقد انتصرنا يا فارس انتصرنا.
فارس : أنا لا أستحق العقاب القاسي إذن ...
رجاء: لا.لا.لا تستحقه ... الليلة إذا ما أتى الشبح سأبصق في وجهه و سوف أقول له كاذب...كاذب...
مصدر التص:
غسان كنفاني الآثار الكاملة – المسرحيات – المجلد 3 – مؤسسة الأبحاث- مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ، ص : 266 و ص : 270.
المسرح فن من الفنون الجميلة و يعده البعض أب الفنون لقدرته على توظيف كل الأشكال التعبيرية المعروفة ، من رقص و موسيقى و شعر ورسم ... و يعد المسرح في عالمنا العربي فنا دخيلا ، و قد ظهر فن المسرح داخل حركية تطور أشكال الكتابة النثرية التي تحكمت فيها سياقات التحول الاجتماعي الذي شهدته المجتمعات العربية و الذي واكبه ظهور فن المقالة و القصة على أن المسرح جنس أدبي متميز تحدده مكونات أساسية هي: (الحدث-الحوار-الصراع الدرامي ...) و إذا كان كذلك فما هي الموصفات التي تميز الخطاب المسرحي؟ و ما خصوصية الكتابة عند غسان كنفاني؟
إن تحليلنا للمسرحية يبدأ بعنباتها الأولى التي هي العنوان المنقسم إلى مصطلحين اثنين ، فالمصطلح الأول :
جسر مفرد جسور و هو يطلق على اسم مكان و يطلق على العلاقات و الروابط الوثيقة ، حيث نقول ربط فلان مع فلان جسور التواصل ، و في هذا النص ترمزإلى مدى تعلق فارس الإبن الفلسطيني بأمه ، و أما المصطلح الثاني فيتعلق ب إلى الأبد و تعني حسب النص رحيل فارس و مغادرة أمه الأرض (فلسطين) و ما خلفه رحيله عنها في نفسيتها من كآبة و حزن شديد .
و لقد جاءنا النص عبارة عن خطاب مسرحي يبرز من خلاله الكاتب العذاب و المعاناة التي يعاني منها البطل و هو شخصية فارس باعتقاده الخاطئ أن غيابه عن أمه تسبب في موتها ، لكن رجاء اكتشفت من خلال اضطلاعها على التقرير الطبي أن أم فارس توفيت فجأة بسكتة قلبية قبل أن يغادر ابنها المدينة ، و اكتشافها هذا خلص فارس من عقاب تأتيب الضمير الذي أصبح يهدد و جوده .
أما المؤشر الثاني في بناء فرضية النص فيرتبط بشكله إذ نراه عبارة عن متوالية حوارية يهيمن فيها الحوار على السرد على عكس القصة التي نجد فيها هيمنة السرد على الحوار كما هو في قصة شغلانة ليوسف إدريس . و على الأساس أمكن تقسيم النص إلى مجموعة من الأحداث ، فالحدث الأول يتعلق بالإعتقاد الخاطئ الذي عذب شخصية فارس معنبرا غيابه عن أمه كان سببا مباشرا في موتها مما جعله يعيش حالة من الياس و الحزن و أصبحت حياته بمتابة جحيم ، و أما الحدث الثاني فيتعلق الأمر باكتشاف رجاء المفاجئ على ان أم فارس ماتت فجأة بسكتة قلبية قبل أيرحل عنها ابنها و يغادر البيت و ذلك من خلال اضطلاعها على التقرير الطبي و التي أمرت فارس أيضا بالذهاب للتحقق و التأكد من صحة الخبر ، و قد كان اكتشافها هذا بمتابة وسيلة و طريقة لتخلص فارس من العقاب النفسي القاسي الذي أصبح يشكل خطرا على حياته و مستقبله.
ومن خلال كل ما سلف نرى أن النص يغلب عليه البعد النفسي ما دام يتناول الأحاسيس الداخلية للبطل ، فالمسرحية قادرة على أن تكشف لنا أحوال النفس البشرية كما أن الخطاب المسرحي مرآة ناقلة لنبض المجتمع كما رأينا ذلك عند عبد الكريم برشيد و قادر أيضا على الانفتاح على قضايا سياسية كما نجد عند سعد الله و نوس.
و بانتقالنا إلى خصائص الخطاب المسرحي نجد من بين أهم المميزات التي تميزه عن باقي سائر الفنون الأخرى كالقصة و المقالة هو وجود الصراع الدرامي حيث ساهمت العديد من الإشارات المسرحية الآتية في تجسيد الملامح النفسية لهذا الصراع و تتمثل في شخصية : فارس : (مذهولا – منهارا – مترددا – شاردا ...) زائد (كمن فقد رشده) .
وسيفيق من حالة الشرود حين يصيح فجأة بعد أن استوعب الموقف ، و أما شخصية رجاء فتتجسد ملامحها النفسية التي أدت إلى وجود صراع درامي قوي و ذلك من خلال تواثر مجموعة من المؤشرات الدالة على ذلك و من أهمها : (تصيح- شبه باكية – تلهث- تتنهد – بسعادة...).
وتعكس هذه المؤشرات كلها على حالة الانفعال و التوتر النفسي الشديد التي عاشتها رجاء في بداية الخطاب المسرحي و هي تحاول إقناع فارس ببراءته من دم أمه . لكن في النهاية تتحول حالة الانفعال و المعاناة إلى سعادة كبيرة نتيجة نجاحها في مهمتها و هي كشفها بأن فارس لم يقتل أمه و أنه بريء من دمها.
و أما الخاصية الثانية المميزة للخطاب المسرحي فتتمثل في هيمنة الحوار و بموجب ذلك نعتقد أن المسرحية هي عبارة عن متوالية حوارية عكس القصة التي يهيمن عليها السارد و الذي يبقى دوره محصورا في الخطاب المسرحي على توزيع بعض الأدوار و بعض الجمل الإخراجية و من أمثلة ذلك :
• صوت قرع شديد على باب.
• تصمت هنيهة.
• صوت أقدامه ثم مزلاج الباب يفتح.
و إلى جانب هذا و بمقارنتنا بين حوار فارس و رجاء نجد أن حوارات رجاء طويلة في حين نجد حوارات فارس شبه قصيرة و يمكن إرجاع ذلك إلى انفعالها و توترها الكبير من جراء خوفها و اعتقادها الخاطئ بأن فارس مذنب و كان سببا في وفاة أمه و لذلك فهي تطرح أسئلة كثيرة و هذفها يتمحور حول بحثها على الحقيقة . كما أن الحوار يستطيع أن يكشف لنا على الصراع النفسي الحاد الذي عاشه فارس بسبب شعوره بالذنب و إحساسه أنه يستحق العقاب وهو صراع تكثفه الجملة التالية:
(لست أدري ... إن صدري يموج كأنه بحر ... لا أستطيع أن أتعرف على مشاعري...).صراع حققت حدته أيضا فمحاولات الإقناع على لسان رجاء و ذلك من خلال استثمارها لمجموعة من الأساليب الإنشائية كالإستفهامو هو في النص موجود بكثرة و مثال ذلك : كيف؟كيف؟ - لايغير شيئا أيها الأحمق ...كيف؟ بالإضافة إلى أسلوب النداء و مثال ذلك إفتح يا فارس ...افتح...افتح...و كذلك استعمال أسلوب النفي كقول فارس : لم أقتلها ؟ ومما يميز الخطاب المسرحي أيضا توطيفه الخاص للأمكنة و الفضاءات ففضلا عن مكان العرض الذي هو خشبة المسرح نجد أن هناك أمكنة ترتبط بالأحداث و هو المنزل حيث توجد بعض المؤشرات التي تدل عليه في النص و من بينها :
• افتح يا فارس ... افتح ... افتح.... .
• لقد ماتت بعد نصف ساعة فقط من مغادرتك البيت .
• صوت قرع شديد على باب .
و من كل ذلك يتبين لنا أن البيت هو المكان الخاص الذي تجري فيه الأحداث و الوقائع إضافة إلى ذلك هناك فضاءات أخرى عامة (كالمدينة – المطار – الطريق...) و مع تنوع المكان نجد أيضا تنوعا للزمان فأمكن القول بعد ذلك إن الزمن العام هو الصباح من خلال تواثر مجموعة من الإشارات الدالة على ذلك كقول فارس:
أتيت مبكرة اليوم هل من جديد و قول رجاء أنت قلت أنك غادرت البيت يوم الثلاثاء في الساعة الثامنة و النصف صباحا . و هذا يؤكد لنا أن زمن الصباح هو المهيمن في النص بالإضافة إلى الزمن العام هناك زمن خاص و هو الليل بدليل قول رجاء : لا.لا.لاتستحقه الليلة. و هذا الزمن في النص قليل بالمقارنة مع زمن الصباح ، و أما الزمن النفسي فيتنوع بتنوع الشخصيات . و من أهم ما يميز النص المسرحي هو وجود قوى فاعلة تحرك مجرى الإحداث داخل النص و تخلق لنا حوار يطبعه الصراع الدرامي ، ففي هذا النص نجد أن الكاتب ركز على شخصيتين رئيسيتين هي التي تقوم بتحريك الأحداث و الوقائع في حين يمكن أن نجد في بعض المسرحيات تعدد في الشخصيات أي نجد أكثر من شخصيتين. وبانتقالنا إلى مظاهر اتساق النص نجده أنه يضمن من خلال توظيف الكاتب لمجموعة من الوسائل اللغوية التي وفرت له اتساقه و انسجامه و نذكر الربط بين الجمل و العبارات بواسطة أدوات العطف و هي في النص كثيرة و غيرها و كذلك تزظيفه للجمل الرابطية و مثال ذلككانت تشتري طعاما للغذاء ، و كانت على وشك العودة إلى البيت.
كما نجد أيضا توظيف و تنويع الضمائر من ضمير ( المتكلم – الغائب – المفرد – المخاطب) . و تكرار بعض العبارات و الألفااظ في النص : ( تصيح – لم أقتلها- البيت – الصباح ....).
وخلاصة القول إن الخطاب المسرحي نوع أدبي حديث يمثل تطوراا للأشكال الأدبية القديمة كالحكاية و المقالة و هو إطار ناقل لنبض المجتمع منفتح على قضايا سياسية و فكرية قادر على أن يكشف أحوال النفس البشرية و هو شكل فني تمكنه طبيعته من الانفتاح على باقي الفنون الأخرى كالموسيقى و التشكيل و الرقص بل و حتى السينما فضلا عن الغبداع اللغوي.
رجاء : (تصيح) افتح يا فارس ... افتح ... افتح.
فارس: (من بعيد) رجاء؟ أتيت مبكرة اليوم هل من جديد ؟
رجاء: (مثارة) افتح ...افتح...عجل افتح.
فارس: لحظة واحدة ، لحظة واحدة ، سأصل الآن ، لحظة واحدة فقط .
(صوت أقدامه – ثم مزلاج الباب يفتح)
رجاء: (شبه باكية) آه يا فارس .أيها العزيز المسكين . أنت لم تقتل أمك . لم تقتلها . لم تقتلها.
فارس: (مذهولا)لم أقتلها؟
رجاء: (تصيح) أجل . لم تقتلها يا فارس ...لم تقتلها.
فارس: (كمن فقد رشده) تعنين أنها ليست ميتة؟
رجاء: لا.لا. (تتردد)أعني.نعم. إنها ميتة طبعا . ولكنك لم تقتلها .
فارس: (منهارا) كيف؟ أيتها الحمقاء الصغيرة ؟كيف؟كيف؟
رجاء: (تلهث)لقد ماتت بعد نصف ساعة فقط من مغادرتك البيت ...(تصمت هنيهة ) أنت قلت أنك غادرت البيت يوم الثلاثاء في الساعة الثامنة صباحا . التقرير الطبي يقول إنها ماتت في الساعة الثامنة و النصف من نفس الصباح.
فارس: هذا...هذا لا يغير شيئا.
رجاء: كيف؟كيف؟ لا يغير شيئا أيها الأحمق ...كيف؟
فارس: ماذا يغير ؟
رجاء: لقد ماتت قبل أن تغادر المدينة أنت...كان من الممكن أن يحدث ذلك و أنت هنا . ماتت دون أن تعرف أنك غادرت المدينة . كانت تشتري طعاما للغذاء و كانت على وشك العودة إلى البيت حين داهمها الموت في الطريق :أصيبت بالسكتة القلبية فجأة ...و كنت أنت ما زلت في المطار . أنت لم تقتلها أيها المسكين الضائع ... لم تقتلعا.
فارس: متأكدة ؟
رجاء: قرأت التقرير مرات و مرات بعيني هاتين و يبقى أن تذهب بنفسك أنت لتتأكد من كل شيء(تتنهد) يا إلهي ...ألست سعيدا؟
فارس: (مترددا) لست أدري ...لست أدري...إن صدري يموج كأنه بحر ، أمسكي يدي يا رجاء إنها باردة كالثلج لست أدري....لا أستطيع أن أتعرف على مشاعري.
رجاء: (مثارة) ضع ذلك في رأسك يا فارس ... أنت لم تقتلها... أنا لا افهم مسؤولية الإبن...
ولكن يجب أن تبدل جهدا لتصدق نفسك ... أنت لم تقتلها ... قل ذلك لنفسك.
فارس: (دون شعور ) أنا لم أقتلها .
رجاء: قل ذلك مرة أخرى
فارس: أنا أقتل أمي ... أنا لم أقتل أمي .
رجاء: ذلك سيجعل الأمور أفضل بكثير...
فارس: (شاردا) لم اقتلها ...يا إلهي .(يصيح فجأة) إن ذلك يغير كل شيء.
رجاء: (بسعادة) يغير كل شيء ... كل شيء ... لقد انتصرنا يا فارس انتصرنا.
فارس : أنا لا أستحق العقاب القاسي إذن ...
رجاء: لا.لا.لا تستحقه ... الليلة إذا ما أتى الشبح سأبصق في وجهه و سوف أقول له كاذب...كاذب...
مصدر التص:
غسان كنفاني الآثار الكاملة – المسرحيات – المجلد 3 – مؤسسة الأبحاث- مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ، ص : 266 و ص : 270.
المسرح فن من الفنون الجميلة و يعده البعض أب الفنون لقدرته على توظيف كل الأشكال التعبيرية المعروفة ، من رقص و موسيقى و شعر ورسم ... و يعد المسرح في عالمنا العربي فنا دخيلا ، و قد ظهر فن المسرح داخل حركية تطور أشكال الكتابة النثرية التي تحكمت فيها سياقات التحول الاجتماعي الذي شهدته المجتمعات العربية و الذي واكبه ظهور فن المقالة و القصة على أن المسرح جنس أدبي متميز تحدده مكونات أساسية هي: (الحدث-الحوار-الصراع الدرامي ...) و إذا كان كذلك فما هي الموصفات التي تميز الخطاب المسرحي؟ و ما خصوصية الكتابة عند غسان كنفاني؟
إن تحليلنا للمسرحية يبدأ بعنباتها الأولى التي هي العنوان المنقسم إلى مصطلحين اثنين ، فالمصطلح الأول :
جسر مفرد جسور و هو يطلق على اسم مكان و يطلق على العلاقات و الروابط الوثيقة ، حيث نقول ربط فلان مع فلان جسور التواصل ، و في هذا النص ترمزإلى مدى تعلق فارس الإبن الفلسطيني بأمه ، و أما المصطلح الثاني فيتعلق ب إلى الأبد و تعني حسب النص رحيل فارس و مغادرة أمه الأرض (فلسطين) و ما خلفه رحيله عنها في نفسيتها من كآبة و حزن شديد .
و لقد جاءنا النص عبارة عن خطاب مسرحي يبرز من خلاله الكاتب العذاب و المعاناة التي يعاني منها البطل و هو شخصية فارس باعتقاده الخاطئ أن غيابه عن أمه تسبب في موتها ، لكن رجاء اكتشفت من خلال اضطلاعها على التقرير الطبي أن أم فارس توفيت فجأة بسكتة قلبية قبل أن يغادر ابنها المدينة ، و اكتشافها هذا خلص فارس من عقاب تأتيب الضمير الذي أصبح يهدد و جوده .
أما المؤشر الثاني في بناء فرضية النص فيرتبط بشكله إذ نراه عبارة عن متوالية حوارية يهيمن فيها الحوار على السرد على عكس القصة التي نجد فيها هيمنة السرد على الحوار كما هو في قصة شغلانة ليوسف إدريس . و على الأساس أمكن تقسيم النص إلى مجموعة من الأحداث ، فالحدث الأول يتعلق بالإعتقاد الخاطئ الذي عذب شخصية فارس معنبرا غيابه عن أمه كان سببا مباشرا في موتها مما جعله يعيش حالة من الياس و الحزن و أصبحت حياته بمتابة جحيم ، و أما الحدث الثاني فيتعلق الأمر باكتشاف رجاء المفاجئ على ان أم فارس ماتت فجأة بسكتة قلبية قبل أيرحل عنها ابنها و يغادر البيت و ذلك من خلال اضطلاعها على التقرير الطبي و التي أمرت فارس أيضا بالذهاب للتحقق و التأكد من صحة الخبر ، و قد كان اكتشافها هذا بمتابة وسيلة و طريقة لتخلص فارس من العقاب النفسي القاسي الذي أصبح يشكل خطرا على حياته و مستقبله.
ومن خلال كل ما سلف نرى أن النص يغلب عليه البعد النفسي ما دام يتناول الأحاسيس الداخلية للبطل ، فالمسرحية قادرة على أن تكشف لنا أحوال النفس البشرية كما أن الخطاب المسرحي مرآة ناقلة لنبض المجتمع كما رأينا ذلك عند عبد الكريم برشيد و قادر أيضا على الانفتاح على قضايا سياسية كما نجد عند سعد الله و نوس.
و بانتقالنا إلى خصائص الخطاب المسرحي نجد من بين أهم المميزات التي تميزه عن باقي سائر الفنون الأخرى كالقصة و المقالة هو وجود الصراع الدرامي حيث ساهمت العديد من الإشارات المسرحية الآتية في تجسيد الملامح النفسية لهذا الصراع و تتمثل في شخصية : فارس : (مذهولا – منهارا – مترددا – شاردا ...) زائد (كمن فقد رشده) .
وسيفيق من حالة الشرود حين يصيح فجأة بعد أن استوعب الموقف ، و أما شخصية رجاء فتتجسد ملامحها النفسية التي أدت إلى وجود صراع درامي قوي و ذلك من خلال تواثر مجموعة من المؤشرات الدالة على ذلك و من أهمها : (تصيح- شبه باكية – تلهث- تتنهد – بسعادة...).
وتعكس هذه المؤشرات كلها على حالة الانفعال و التوتر النفسي الشديد التي عاشتها رجاء في بداية الخطاب المسرحي و هي تحاول إقناع فارس ببراءته من دم أمه . لكن في النهاية تتحول حالة الانفعال و المعاناة إلى سعادة كبيرة نتيجة نجاحها في مهمتها و هي كشفها بأن فارس لم يقتل أمه و أنه بريء من دمها.
و أما الخاصية الثانية المميزة للخطاب المسرحي فتتمثل في هيمنة الحوار و بموجب ذلك نعتقد أن المسرحية هي عبارة عن متوالية حوارية عكس القصة التي يهيمن عليها السارد و الذي يبقى دوره محصورا في الخطاب المسرحي على توزيع بعض الأدوار و بعض الجمل الإخراجية و من أمثلة ذلك :
• صوت قرع شديد على باب.
• تصمت هنيهة.
• صوت أقدامه ثم مزلاج الباب يفتح.
و إلى جانب هذا و بمقارنتنا بين حوار فارس و رجاء نجد أن حوارات رجاء طويلة في حين نجد حوارات فارس شبه قصيرة و يمكن إرجاع ذلك إلى انفعالها و توترها الكبير من جراء خوفها و اعتقادها الخاطئ بأن فارس مذنب و كان سببا في وفاة أمه و لذلك فهي تطرح أسئلة كثيرة و هذفها يتمحور حول بحثها على الحقيقة . كما أن الحوار يستطيع أن يكشف لنا على الصراع النفسي الحاد الذي عاشه فارس بسبب شعوره بالذنب و إحساسه أنه يستحق العقاب وهو صراع تكثفه الجملة التالية:
(لست أدري ... إن صدري يموج كأنه بحر ... لا أستطيع أن أتعرف على مشاعري...).صراع حققت حدته أيضا فمحاولات الإقناع على لسان رجاء و ذلك من خلال استثمارها لمجموعة من الأساليب الإنشائية كالإستفهامو هو في النص موجود بكثرة و مثال ذلك : كيف؟كيف؟ - لايغير شيئا أيها الأحمق ...كيف؟ بالإضافة إلى أسلوب النداء و مثال ذلك إفتح يا فارس ...افتح...افتح...و كذلك استعمال أسلوب النفي كقول فارس : لم أقتلها ؟ ومما يميز الخطاب المسرحي أيضا توطيفه الخاص للأمكنة و الفضاءات ففضلا عن مكان العرض الذي هو خشبة المسرح نجد أن هناك أمكنة ترتبط بالأحداث و هو المنزل حيث توجد بعض المؤشرات التي تدل عليه في النص و من بينها :
• افتح يا فارس ... افتح ... افتح.... .
• لقد ماتت بعد نصف ساعة فقط من مغادرتك البيت .
• صوت قرع شديد على باب .
و من كل ذلك يتبين لنا أن البيت هو المكان الخاص الذي تجري فيه الأحداث و الوقائع إضافة إلى ذلك هناك فضاءات أخرى عامة (كالمدينة – المطار – الطريق...) و مع تنوع المكان نجد أيضا تنوعا للزمان فأمكن القول بعد ذلك إن الزمن العام هو الصباح من خلال تواثر مجموعة من الإشارات الدالة على ذلك كقول فارس:
أتيت مبكرة اليوم هل من جديد و قول رجاء أنت قلت أنك غادرت البيت يوم الثلاثاء في الساعة الثامنة و النصف صباحا . و هذا يؤكد لنا أن زمن الصباح هو المهيمن في النص بالإضافة إلى الزمن العام هناك زمن خاص و هو الليل بدليل قول رجاء : لا.لا.لاتستحقه الليلة. و هذا الزمن في النص قليل بالمقارنة مع زمن الصباح ، و أما الزمن النفسي فيتنوع بتنوع الشخصيات . و من أهم ما يميز النص المسرحي هو وجود قوى فاعلة تحرك مجرى الإحداث داخل النص و تخلق لنا حوار يطبعه الصراع الدرامي ، ففي هذا النص نجد أن الكاتب ركز على شخصيتين رئيسيتين هي التي تقوم بتحريك الأحداث و الوقائع في حين يمكن أن نجد في بعض المسرحيات تعدد في الشخصيات أي نجد أكثر من شخصيتين. وبانتقالنا إلى مظاهر اتساق النص نجده أنه يضمن من خلال توظيف الكاتب لمجموعة من الوسائل اللغوية التي وفرت له اتساقه و انسجامه و نذكر الربط بين الجمل و العبارات بواسطة أدوات العطف و هي في النص كثيرة و غيرها و كذلك تزظيفه للجمل الرابطية و مثال ذلككانت تشتري طعاما للغذاء ، و كانت على وشك العودة إلى البيت.
كما نجد أيضا توظيف و تنويع الضمائر من ضمير ( المتكلم – الغائب – المفرد – المخاطب) . و تكرار بعض العبارات و الألفااظ في النص : ( تصيح – لم أقتلها- البيت – الصباح ....).
وخلاصة القول إن الخطاب المسرحي نوع أدبي حديث يمثل تطوراا للأشكال الأدبية القديمة كالحكاية و المقالة و هو إطار ناقل لنبض المجتمع منفتح على قضايا سياسية و فكرية قادر على أن يكشف أحوال النفس البشرية و هو شكل فني تمكنه طبيعته من الانفتاح على باقي الفنون الأخرى كالموسيقى و التشكيل و الرقص بل و حتى السينما فضلا عن الغبداع اللغوي.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء